الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أما بعــــد :
فقد كثر الكلام عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وما كنت أود أن
أكتب شيئاً في هذا الموضوع وذلك لأن ما شغل ذهني وذهن العقلاء من المسلمين
اليوم هو أكبر من هذه القضية الجانبية التي صار الكلام عنها أشبه ما يكون
بالحولية التي تُقرأ في كل موسم وتُنشر في كل عام حتى ملّ الناس سماع مثل
هذا الكلام، لكن لما أحب كثير من الإخوان أن يعرفوا رأيي بالخصوص في هذا
المجال، وخوفاً من أن يكون ذلك من كتم العلم أقدمت على المشاركة في
الكتابة عن هذا الموضوع سائلين من المولى عزوجل أن يلهم الجميع الصواب آمين
.
وقبل أن أسرد الأدلة على جواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف والاجتماع عليه أحب أن أبين المسائل الآتية:
الأولى: أننا نقول بجواز الاحتفال بالمولد
النبوي الشريف والاجتماع لسماع سيرته والصلاة والسلام عليه وسماع المدائح
التي تُقال في حقه، وإطعام الطعام وإدخال السرور على قلوب الأمة .
الثانية: أننا لا نقول بسنية الاحتفال
بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة بل من اعتقد ذلك فقد ابتدع في الدين، لأن
ذكره صلى الله عليه وسلّم والتعلق به يجب أن يكون في كل حين، ويجب أن تمتلئ
به النفوس .
نعم: إن في شهر ولادته يكون الداعي أقوي لإقبال الناس واجتماعهم وشعورهم
الفياض بارتباط الزمان بعضه ببعض، فيتذكرون بالحاضر الماضي وينتقلون من
الشاهد إلى الغائب .
الثالثة: أن هذه الاجتماعات هي وسيلة كبرى
للدعوة إلى الله، وهي فرصة ذهبية لا تفوت، بل يجب على الدعاة والعلماء أن
يذّكروا الأمة بالنبي صلى الله عليه وسلّم بأخلاقه وآدابه وأحواله وسيرته
ومعاملته وعبادته، وأن ينصحوهم ويرشدوهم إلى الخير والفلاح ويحذّروهم من
البلاء والبدع والشر والفتن، وإننا دائما ندعو إلى ذلك ونشارك في ذلك ونقول
للناس: ليس المقصود من هذه الاجتماعات مجرد الاجتماعات والمظاهر، بل هذه
وسيلة شريفة إلى غاية شريفة وهي كذا وكذا، ومن لم يستفد شيئا لدينه فهو
محروم من خيرات المولد الشريف .
أدلة جواز الاحتفال بمولد النبي صلّىالله عليه وسلّم
الأول: أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تعبير عن الفرح والسرور بالمصطفى صلى الله عليه وسلّم، وقد انتفع به الكافر .
وسيأتي في الدليل التاسع مزيد بيان لهذه المسألة، لأن أصل البرهان واحد
وإن اختلفت كيفية الاستدلال وقد جرينا على هذا المنهج في هذا البحث وعليه
فلا تكرار
فقد جاء في البخاري أنه يخفف عن أبي لهب كل يوم الاثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما بشّرته بولادة المصطفى صلى الله عليه وسلّم .
ويقول في ذلك الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي
إذا كان هذا كافـراً جاء ذمـه *** بتبّت يداه في الجحيم مخلّدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائـمـا *** يُخفّف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره *** بأحمد مسرورا ومات موحّدا
وهذه القصة رواها البخاري في الصحيح في كتاب النكاح مرسلة ونقلها الحافظ
ابن حجر في الفتح ورواها الإمام عبدالرزاق الصنعاني في المصنف والحافظ
البيهقي في الدلائل وابن كثير في السيرة النبوية من البداية ومحمد ابن عمر
بحرق في حدائق الأنوار والحافظ البغوي في شرح السنة وابن هشام والسهيلي في
الروض الأُنُف والعامري في بهجة المحافل، وهي وإنْ كانت مرسلة إلا أنها
مقبولة لأجل نقل البخاري لها واعتماد العلماء من الحفاظ لذلك ولكونها في
المناقب والخصائص لا في الحلال والحرام، وطلاب العلم يعرفون الفرق في
الاستدلال بالحديث بين المناقب والأحكام، وأما انتفاع الكفار بأعمالهم ففيه
كلام بين العلماء ليس هذا محل بسطه، والأصل فيه ما جاء في الصحيح من
التخفيف عن أبي طالب بطلب من الرسول صلى الله عليه وسلّم .
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلّم كان يعظّم
يوم مولده، ويشكر الله تعالى فيه على نعمته الكبرى عليه، وتفضّله عليه
بالجود لهذا الوجود، إذ سعد به كل موجود، وكان يعبّر عن ذلك التعظيم
بالصيام كما جاء في الحديث عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم
سُئل عن صيام يوم الاثنين ؟ فقال (فيه وُلدتُ وفيه أُنزل عليَّ ) رواه
الإمام مسلم في الصحيح في كتاب الصيام .
وهذا في معنى الاحتفال به، إلاّ أن الصورة مختلفة ولكن المعنى موجود
سواء كان ذلك بصيام أو إطعام طعام أو اجتماع على ذكر أو صلاة على النبي
صلّى الله عليه وسلّم أو سماع شمائله الشريفة .
الثالث: أن الفرح به صلّى الله عليه وسلّم
مطلوب بأمر القرآن من قوله تعالى ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا )
فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم
الرحمة، قال الله تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) .
الرابع: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان
يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت، فإذا جاء
الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكّرها وتعظيم يومها لأجلها ولأنه ظرف لها
.
وقد أصّل صلّى الله عليه وسلّم هذه القاعدة بنفسه كما صرح في الحديث
الصحيح أنه صلى الله عليه وسلّم: لما وصل المدينة ورأى اليهود يصومون يوم
عاشوراء سأل عن ذلك فقيل له: إنهم يصومون لأن الله نجّى نبيهم وأغرق عدوهم
فهم يصومونه شكرا لله على هذه النعمة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: نحن أولى
بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه .
ا
لخامس: أن المولد الشريف يبعث على الصلاة
والسلام المطلوبين بقوله تعالى: ( إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا
أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما ) .
وما كان يبعث على المطلوب شرعاً فهو مطلوب شرعاً، فكم للصلاة عليه من
فوائد نبوية، وإمدادات محمدية، يسجد القلم في محراب البيان عاجزاً عن تعداد
آثارها ومظاهر أنوارها .